English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

دار الأرقم



دار الأرقم:
كان من الحكمة تلقاء هذه الاضطهادات أن يمنع رسول 

اللَّه صلى الله عليه وسلم المسلمين عن إعلان إسلامهم قولاً 

أو فعلاً، وأن لا يجتمع بهم إلا سراً، لأنه إذا اجتمع 

بهم علناً فلا شك أن المشركين يحولون بينه وبين ما يريد من 

تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة، وربما

 يفضي ذلك إلى مصادمة الفريقين، بل وقع ذلك فعلاً في السنة 

الرابعة من النبوة، وذلك أن أصحاب رسول اللَّه صلى

 الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها سراً، 

فرآهم نفر من كفار قريش، فسبوهم وقاتلوهم، فضرب

 سعد بن أبي وقاص رجلاً فسال دمه، وكان أول دم هريق في الإسلام.

ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير

 المسلمين وإبادتهم فكان من الحكمة الاختفاء، فكان عامة 

الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم،

 أما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوة 

والعبادة بين ظهراني المشركين، لا يصرفه عن ذلك شيء

، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سراً؛ نظراً لصالحهم وصالح 

الإسلام، وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا. 

وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، فكان

 اتخذها مركزاً لدعوته، ولاجتماعه بالمسلمين من السنة الخامسة من النبوة.

الهجرة الأولى إلى الحبشة:

كانت بداية الاضطهادات في أواسط أو أواخر السنة

 الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة ثم لم تزل يوماً فيوماً وشهراً فشهراً 

حتى اشتدت وتفاقمت في أواسط السنة الخامسة، حتى

 نبا بهم المقام في مكة، وأوعزتهم أن يفكروا في حيلة تنجيهم من 

هذا العذاب الأليم، وفي هذه الساعة الضنكة الحالكة

 نزلت سورة الكهف ردوداً على أسئلة أدلى بها المشركون إلى 

النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنها اشتملت 

على ثلاث قصص، فيها إشارات بليغة من اللَّه تعالى إلى عباده 

المؤمنين، فقصة أصحاب الكهف ترشد إلى الهجرة 

من مراكز الكفر والعدوان حين مخافة الفتنة على الدين، متوكلاً 

على اللَّه {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا

 إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف: 16].

وقصة الخضر وموسى تفيد أن الظروف لا تجري

 ولا تنتج حسب الظاهر دائماً. بل ربما يكون الأمر على عكس 

كامل بالنسبة إلى الظاهر، ففيها إشارة لطيفة إلى

 أن الحرب القائمة ضد المسلمين ستنعكس تماماً، وسيصادر هؤلاء 

الطغاة المشركون - إن لم يؤمنوا - أمام هؤلاء الضعفاء المدحورين من المسلمين.

وقصة ذي القرنين تفيد أن الأرض للَّه يورثها من عباده من يشاء.

 وأن الفلاح إنما هو في سبيل الإيمان دون الكفر، 

وأن اللَّه لا يزال يبعث من عباده - بين آونة وأخرى

 من يقوم بإنجاء الضعفاء من يأجوج ذلك الزمان ومأجوجه. وأن 

الأحق بإرث الأرض إنما هو عباد اللَّه الصالحون

 ثم نزلت سورة الزمر تشير إلى الهجرة، وتعلن بأن أرض اللَّه ليست 

ضيقة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ 

اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10] 

وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد علم أن أصحمة

 النجاشي ملك الحبشة ملك عادل. لا يظلم عنده أحد، فأمر 

المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فراراً بدينهم من الفتن.

وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من

 الصحابة إلى الحبشة،كان مكوناً من اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، 

رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه السيدة رقية بنت رسول

 اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم 

فيهما إنهما أول بيت هاجر في سبيل اللَّه بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام.

كان رحيل هؤلاء تسلالاً في ظلمة الليل - حتى لا تفطن لهم قريش

 - خرجوا إلى البحر يمموا ميناء شعيبة، وقيضت 

لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة،

 وفطنت لهم قريش، فخرجت في آثارهم، لكن لما بلغت إلى 

الشاطىء كانوا قد انطلقوا آمنين، وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار.

وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه

 وسلم إلى الحرم، وهناك جمع كبير من قريش، كان فيه 

ساداتها وكبراؤها، فقام فيهم، وأخذ يتلو سورة النجم

 بغتة، إن أولئك الكفار لم يكونوا سمعوا كلام اللَّه قبل ذلك، لأن 

أسلوبهم المتواصل كان هو العمل بما تواصى به 

بعضهم بعضاً، من قولهم{لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ 

تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] فلما باغتهم بتلاوة هذه

 السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي رائع خلاب - لا يحيط بروعته وجلالته 

البيان - تفانوا عما هم فيه، وبقي كل واحد مصغياً إليه،

 لا يخطر بباله شيء سواه. حتى إذا تلا في خواتيم هذه 

السورة قوارع تطير لها القلوب، ثم قرأ {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}

 [النجم: 62] ثم سجد. لم يتمالك أحد نفسه حتى خر 

ساجداً. وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت

 العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا للَّه ساجدين.

وسقط في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام اللَّه لوى زمامهم

، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهده في محوه 

وإفنائه، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب،

 ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا 

على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه

 أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، وأنه قال عنها: "تلك الغرانيق 

العلى، وإن شفاعتهن لترتجى" جاءوا بهذا الإفك المبين

، ليعتذروا عن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس 

يستغرب هذا من قوم كانوا يؤلفون الكذب، ويطيلون الدس والافتراء.

بلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة

 تختلف تماماً عن صورته الحقيقية، بلغهم أن قريشاً أسلمت، 

فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة، فلما كانوا

دون مكة ساعة من نهار، وعرفوا جلية الأمر رجع منهم من رجع 

إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفياً، أو في جوار رجل من قريش.

ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش

، وسطت بهم عشائرهم، فقد كان صعباً على قريش ما بلغها 

عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسول اللَّه

 صلى الله عليه وسلم بداً من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى 

الحبشة مرة أخرى، وكانت هذه الهجرة الثانية أشق

 من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن 

المسلمين كانوا أسرع، ويسر اللَّه لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا.

وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلاً

 إن كان فيهم عمار، فإنه يشك فيه، وثمان عشرة أو تسع عشرة 

امرأة. وبالأول جزم العلامة محمد سليمان المنصور فوري.

الى مكيدة قريش بمهاجري الحبشة