التآمر على موسى ومن آمن معه:
وتبدأ جولة جديدة بين الحق والباطل. فهاهم
علية القوم من المصريين، يتآمرون ويحرضون
فرعون ويهيجونه على موسى ومن آمن معه،
ويخوّفونه من عاقبة التهاون معهم. وهم يرون
الدعوة إلى ربوبية الله وحدة إفسادا في الأرض.
حيث يترتب عليها بطلان شرعية حكم فرعون
ونظامه كله. وقد كان فرعون يستمد قوته
من ديانتهم الباطلة، حيث كان فرعون ابن الآلهة.
فإن عبد موسى ومن معه الله رب العالمين،
لن تكون لفرعون أي سطوة عليهم. فاستثارت
هذه الكلمات فرعون، وأشعرته بالخطر الحقيقي
على نظامه كله ففكر بوحشيته المعتادة وقرر
(قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ).
لم يكن هذا التنكيل الوحشي جديدا على
بني إسرائيل. فقد نُفِّذ عليهم هذا الحكم في إبان
مولد موسى عليه السلام. فبدأ موسى
-عليه السلام- يوصي قومه باحتمال الفتنة، والصبر
على البلية، والاستعانة بالله عليها. وأن
الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. والعاقبة لمن
يتقي الله ولا يخشى أحدا سواه
(قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ
يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
إلا أن قومه بدءوا يشتكون من العذاب
الذي حل بهم (قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا
جِئْتَنَا) إنها كلمات ذات ظل! وإنها
لتشي بما وراءها من تبرم! أوذينا قبل مجيئك وما تغير
شيء بمجيئك. وطال هذا الأذى حتى
ما تبدو له نهاية! فيمضي النبي الكريم على نهجه.
يذكرهم بالله، ويعلق رجاءهم به، ويلوح
لهم بالأمل في هلاك عدوهم. واستخلافهم في
الأرض. مع التحذير من فتنة الاستخلاف،
فاستخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء لهم، فهو استخلاف
للامتحان: (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
وينقلنا القرآن الكريم إلى فصل آخر من
قصة موسى عليه السلام. ومشهد آخر من مشاهد
المواجهة بين الحق والباطل. حيث يحكي
لما قصة تشاور فرعون مع الملأ في قتل موسى.
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ
إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ
الْفَسَادَ) أما موسى عليه السلام فالتجأ
إلى الركن الركين، والحصن الحصين، ولاذ بحامي
اللائذين، ومجير المستجيرين
(وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ).
موقف الرجل المؤمن من آل فرعون:
كادت فكرة فرعون أن تحصل على التصديق
لولا رجل من آل فرعون. رجل من رجال الدولة
الكبار، لا يذكر القرآن اسمه، لأن اسمه لا يهم،
لم يذكر صفته أيضا لأن صفته لا تعني شيئا،
إنما ذكر القرآن أنه رجل مؤمن.
ذكره بالصفة التي لا قيمة لأي صفة بعدها.
تحدث هذا الرجل المؤمن، وكان (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)،
تحدث في الاجتماع الذي طرحت فيه فكرة قتل
موسى وأثبت عقم الفكرة وسطحيتها. قال
إن موسى لم يقل أكثر من أن الله ربه، وجاء بعد
ذلك بالأدلة الواضحة على كونه رسولا، وهناك
احتمالان لا ثالث لهما: أن يكون موسى كاذبا،
أو يكون صادقا، فإذا كان كاذبا (فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)،
وهو لم يقل ولم يفعل ما يستوجب قتله. وإذا
كان صادقا وقتلناه، فما هو الضمان
من نجاتنا من العذاب الذي يعدنا به؟
تحدث المؤمن الذي يكتم إيمانه فقال لقومه
: إننا اليوم في مراكز الحكم والقوة. من ينصرنا من
بأس الله إذا جاء؟ ومن ينقذنا من عقوبته
إذا حلت؟ إن إسرافنا وكذبنا قد يضيعاننا.
وبدت كلماته مقنعة. إنه رجل ليس متهما
في ولائه لفرعون. وهو ليس من أتباع موسى.
والمفروض أنه يتكلم بدافع الحرص على
عرش الفرعون. ولا شيء يسقط
العروش كالكذب والإسراف وقتل الأبرياء.
ومن هذا الموضع استمدت كلمات الرجل
المؤمن قوتها. بالنسبة إلى فرعون ووزرائه ورجاله.
ورغم أن فرعون وجد فكرته في قتل موسى،
صريعة على المائدة. رغم تخويف الرجل المؤمن
لفرعون. رغم ذلك قال الفرعون كلمته
التاريخية التي ذهبت مثلا بعده لكل الطغاة: (قَالَ
فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَاد)
هذه كلمة الطغاة دائما حين يواجهون شعوبهم
(مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى). هذا رأينا الخاص، وهو
رأي يهديكم سبيل الرشاد. وكل رأي غيره
خاطئ. وينبغي الوقوف ضده واستئصاله.
لم تتوقف المناقشة عند هذا الحد. قال فرعون
كلمته ولكنه لم يقنع بها الرجل المؤمن. وعاد
الرجل المؤمن يتحدث وأحضر لهم أدلة من التاريخ،
أدلة كافية على صدق موسى. وحذّرهمخ
من المساس به. لقد سبقتهم أمم كفرت
برسلها، فأهلكها الله: قوم نوح، قوم عاد، قوم ثمود.
ثم ذكّرهم بتاريخ مصر نفسه. ذكّرهم
بيوسف عليه السلام حين جاء بالبينات، فشك فيه الناس
ثم آمنوا به بعد أن كادت النجاة تفلت منهم،
ما الغرابة في إرسال الله للرسل؟ إن التاريخ
القديم ينبغي أن يكون موضع نظر. لقد انتصرت
القلة المؤمنة حين أصبحت مؤمنة على الكثرة
الكافرة. وسحق الله تعالى الكافرين. أغرقهم
بالطوفان، وصعقهم بالصرخة. أو خسف بهم الأرض. ماذا ننتظر إذن؟
ومن أين نعلم أن وقوفنا وراء الفرعون لن يضيعنا ويهلكنا جميعا؟
كان حديث الرجل المؤمن ينطوي على عديد
من التحذيرات المخيفة. ويبدو أنه أقنع الحاضرين
بأن فكرة قتل موسى فكرة غير
مأمونة العواقب. وبالتالي فلا داعي لها.
إلا أن الطاغية فرعون حاول مرة أخرى المحاورة
والتمويه، كي لا يواجه الحق جهرة، ولا يعترف
بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه. وبعيد عن احتمال
أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه. فطلب
أن يبنى له بناء عظيم، يصعد
عليه ليرى إله موسى الذي يدعيه.
وبعيدا أن يكون جادا في البحث عن إله موسى
على هذا النحو المادي الساذج. وقد بلغ
فراعنة مصر من الثقافة حدا يبعد معه هذا التصور
. وإنما هو الاستهتار والسخرية من جهة.
والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى.
بعد هذا الاستهتار، وهذا الإصرار، ألقى
الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة:
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38
) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ
وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى
إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ
أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ
فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ
إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي
لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا
أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي
إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي
الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ
هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ
وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) (غافر)
أنهى الرجل المؤمن حديثه بهذه الكلمات
الشجاعة. بعدها انصرف. انصرف فتحول الجالسون
من موسى إليه. بدءوا يمكرون للرجل المؤمن
. بدءوا يتحدثون عما صدر منه. فتدخلت عناية
الله تعالى (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ
بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) وأنجته من فرعون وجنوده.
ابتلاء الله أهل مصر:
أما حال مصر في تلك الفترة. فلقد مضى فرعون
في تهديده، فقتل الرجال واستحيا النساء.
وظل موسى وقومه يحتملون العذاب، ويرجون
فرج الله، ويصبرون على الابتلاء. وظل فرعون في
ظلاله وتحدّيه. فتدخلت قوة الله سبحانه
وتعالى، وشاء الله تعالى أن يشدد على آل فرعون.
ابتلاء لهم وتخويفا، ولكي يصرفهم عن الكيد
لموسى ومن آمن معه، وإثباتا لنبوة موسى
وصدقه في الوقت نفسه. وهكذا سلط على
المصريين أعوام الجدب. أجدبت الأرض وشح النيل
ونقصت الثمار وجاع الناس، واشتد القحط
. لكن آل فرعون لم يدركوا العلاقة بين كفرهم
وفسقهم وبين بغيهم وظلمهم لعباد الله
. فأخذوا يعللون الأسباب. فعندما تصيبهم حسنة،
يقولون إنها من حسن حظهم وأنهم يستحقونها
. وإن أصابتهم سيئة قالوا هي من شؤم
موسى ومن معه عليهم، وأنها من تحت رأسهم!
وأخذتهم العزة بالإثم فاعتقدوا أن سحر موسى
هو المسئول عما أصابهم من قحط. وصور لهم
حمقهم أن هذا الجدب الذي أصاب أرضهم،
آية جاء بها موسى ليسحرهم بها، وهي آية لن يؤمنوا بها مهما حدث.
فشدد الله عليهم لعلهم يرجعون إلى الله،
ويطلقون بني إسرائيل ويرسلونهم معه. فأرسل
عليهم الطوفان، والجراد، والقمل -وهو السوس
- والضفادع، والدم. ولا يذكر القرآن إن كانت
جملة واحدة، أم واحدة تلو الأخرى. وتذكر بعض
الروايات أنها جاءت متتالية وحدة تلو الأخرى.
إلا أن المهم هو طلب آل فرعون من موسى
أن يدعو لهم ربه لينقذهم من هذا البلاء. وبعدونه
في كل مرة أن يرسلوا بني إسرائيل إذا أنجاهم
ورفع عنهم هذا البلاء (قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا
الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ).
فكان موسى -عليه السلام- يدعو الله بأن
يكشف عنهم العذاب. وما أن ينكشف البلاء حتى
ينقضون عهدهم، ويعودون إلى ما كانوا فيه
(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ).
لم يهتد المصريون، ولم يوفوا بعهودهم، بل
على العكس من ذلك. خرج فرعون لقومه، وأعلن
أنه إله. أليس له ملك مصر، وهذه الأنهار
تجري من تحته، أعلن أن موسى ساحر كذاب.
ورجل فقير لا يرتدي أسورة واحدة من الذهب.
ويعبّر القرآن الكريم عن أمر فرعون وقومه:
(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ). استخف بعقولهم.
واستخف بحريتهم. واستخف بمستقبلهم
. واستخف بآدميتهم. فأطاعوه. أليست هذه طاعة
غريبة. تنمحي الغرابة حين نعلم أنهم
كانوا قوما فاسقين. إن الفسق يصرف الإنسان عن
الالتفات لمستقبله ومصالحه وأموره،
ويورده الهلاك. وذلك ما وقع لقوم فرعون.
خروج بني إسرائيل من مصر:
بدا واضحا أن فرعون لن يؤمن لموسى
. ولن يكف عن تعذيبه لبني إسرائيل، ولن يكف عن
استخفافه بقومه. هنالك دعا موسى وهارون على فرعون.
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ
زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ
أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89) (يونس)
لم يكن قد آمن مع موسى فريق من قومه
. فانتهى الأمر، وأوحي إلى موسى أن يخرج من
مصر مع بني إسرائيل. وأن يكور رحيلهم
ليلا، بعد تدبير وتنظيم لأمر الرحيل. ونبأه أن فرعون
سيتبعهم بجنده؛ وأمره أن يقوم قومه
إلى ساحل البحر (وهو في الغالب
عند التقاء خليج السويس بمطقة البحيرات).
وبلغت الأخبار فرعون أن موسى قد صحب
قومه وخرج. فأرسل أوامره في مدن المملكة
لحشد جيش عظيم. ليدرك موسى وقومه،
ويفسد عليهم تدبيرهم. أعلن فرعون التعبئة
العامة. وهذا من شأنه أن يشكل صورة في
الأذهان، أن موسى وقومه يشكلون خطرا فعلى
فرعون وملكه، فيكف يكون إلها من يخشى
فئة صغيرا يعبدون إله آخر؟! لذلك كان لا بد من
تهوين الأمر وذلك بتقليل شأن قوم موسى
وحجمهم (إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) لكننا نطاردهم
لأنهم أغاظونا، وعلى أي حال، فنحن
حذرون مستعدون ممسكون بزمام الأمور.
وقف موسى أمام البحر. وبدا جيش الفرعون
يقترب، وظهرت أعلامه. وامتلأ قوم موسى
بالرعب. كان الموقف حرجا وخطيرا. إن البحر
أمامهم والعدو ورائهم وليس معهم سفن أو أدوات
لعبور البحر، كما ليست أمامهم فرصة واحدة
للقتال. إنهم مجموعة من النساء والأطفال
والرجال غير المسلحين. سيذبحهم فرعون عن آخرهم.
صرخت بعض الأصوات من قوم موسى: سيدركنا فرعون.
قال موسى: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ).
لم يكن يدري موسى كيف ستكون النجاة،
لكن قلبه كان ممتلئا بالثقة بربه، واليقين بعونه،
والتأكد من النجاة، فالله هو اللي يوجهه ويرعاه
. وفي اللحظة الأخيرة، يجيء الوحي من الله
(فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ
) فضربه، فوقعت المعجزة (فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) وتحققه المستحيل في
منطق الناس، لكن الله إن أراد شيئا قال له كن فيكون.
ووصل فرعون إلى البحر. شاهد هذه المعجزة
. شاهد في البحر طريقا يابسا يشقه نصفين.
فأمر جيشه بالتقدم. وحين انتهى موسى
من عبور البحر. وأوحى الله إلى موسى أن يترك
البحر على حاله (وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ)
. وكان الله تعالى قد شاء إغراق
الفرعون. فما أن صار فرعون وجنوده في
منتصف البحر، حتى أصدر الله أمره، فانطبقت الأمواج
على فرعون وجيشه. وغرق فرعون وجيشه
. غرق العناد ونجا الإيمان بالله.
ولما عاين فرعون الغرق، ولم يعد يملك النجاة
(قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) سقطت
عنه كل الأقنعة الزائفة، وتضائل، فلم يكتفي بأن يعلن
إيمانه، بل والاستسلام أيضا (وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
) لكن بلا فائدة، فليس الآن وقت اختيار، بعد
أن سبق العصيان والاستكبار
(آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
انتهى وقت التوبة المحدد لك وهلكت. انتهى
الأمر ولا نجاة لك. سينجو جسدك وحده. لن
تأكله الأسماك، ولين يحمله التيار بعيدا عن
الناس، بل سينجو جسدك لتكون آية لمن خلفك.
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً
وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) (يونس)
أسدل الستار على طغيان الفرعون
. ولفظت الأمواج جثته إلى الشاطئ. بعد ذلك. نزل الستار
تماما عن المصريين. لقد خرجوا يتبعون خطا
موسى وقومه ويقفون أثرهم. فكان خروجهم هذا
هو الأخير. وكان إخراجا لهم من كل ما
هم فيه من جنات وعيون وكنوز؛ فلم يعودوا بعدها
لهذا النعيم! لا يحدثنا القرآن الكريم عما
فعله من بقى من المصررين في مصر بعد سقوط
نظام الفرعون وغرقه مع جيشه. لا يحدثنا
عن ردود فعلهم بعد أن دمر الله ما كان يصنع فرعون
وقومه وما كانوا يشيدون. يسكت السياق
القرآني عنهم. ويستبعدهم تماما من التاريخ والأحداث.
الى عبادة العجل:
شاهد ايضا
محول الأكوادإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء الإبتسامات